قلم حر

سوريا ملتقى الحضارات: رحلة في التنوع الثقافي والتراث الإنساني.

التراث الحضاري السوري: إرث حيّ لا يُقدَّر بثمن

التراث الحضاري هو كل ما ورثناه عن آبائنا لنعيشه بوعي وننقله بأمانة لأبنائنا. إنه إرثٌ مقدّس لا يُقلَّد ولا يُجدَّد، بل يُعاش بأصالته، سواء في أبعاده المادية كالمعمار والآثار، أو في ملامحه اللامادية من ثقافة وفكر وروح وهوية. التراث هو الضمير الحي للشعوب، ومجموعة قيم متجذّرة تشكّل أساس الشعور الوطني والانتماء.

لهذا التراث أوجه متعددة:
• القيمة التاريخية: تتجسّد في معالم ومبانٍ تحمل بين جدرانها روايات حضارات أثْرَت التاريخ الإنساني وساهمت في بنائه، فتتحوّل إلى إرث عالمي وهوية وطنية في آنٍ معاً.
• القيمة الدينية: تنبع من الأماكن التي مرّ بها أنبياء وقديسون ومتُصوفة، أو حدثت فيها معجزات، فصارت مواضع قداسة ي reverberate في ذاكرة الأديان ووجدان المؤمنين.
• القيمة الثقافية: التراث هنا هو مرآة حية لحضارة الشعوب، يعكس أفكارها، عاداتها، هويتها، ويشكّل مصدرًا للإلهام والنمو الثقافي للأمم، فـ”من لا ماضٍ له لا مستقبل له”.
• القيمة الحضارية: التراث ليس فقط سجلًّا للماضي، بل قاعدة صلبة لبناء الحاضر وصياغة المستقبل. وسوريا، بما قدّمته من أول أبجدية للعالم، وبما تحتضنه من مواقع وآثار، تُعدُّ من أكثر بلدان العالم مساهمةً في تشكيل الحضارة الإنسانية.

هكذا، فإن التراث السوري، بكل ما يحمله من ثراء طبيعي وثقافي وديني وتاريخي، هو تاج نفخر به، ومسؤولية نتحمّلها، تتطلب وعياً وعِلماً ودعماً مستداماً للحفاظ عليه.

جذور التنوع الحضاري في سوريا

عقب انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لتقاسم النفوذ بين فرنسا وبريطانيا، تشكّلت الجمهورية العربية السورية الحديثة. لكنّ جذور الغنى الحضاري السوري أعمق من ذلك بكثير.

فموقع سوريا الجغرافي، في نقطة التقاء القارات الثلاث (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، جعل منها بلد عبورٍ حضاري، كما وصفها الجغرافي الألماني “أويغن فيرت”. هذا الموقع الاستراتيجي جعل من أرضها ممرًّا ومركزاً للحضارات القديمة والتجارة والثقافات، منذ العصور الأولى.
• في أوغاريت، وُجدت أقدم أبجدية مكتوبة عرفها الإنسان، والتي انتقلت لاحقاً إلى الإغريق عبر الفينيقيين، وشكّلت أساس الأبجديات العالمية.
• أما تدمر، فقد شكّلت واحةً على طريق الحرير، تربط بين الشرق والغرب، وكانت محطة مهمة لحركة البضائع والثقافات، تداخلت فيها تأثيرات البحر المتوسط والأناضول وبلاد الرافدين ومصر.

سوريا لم تكن مجرد ساحة عبور، بل كانت صانعة للحضارات، ومشكِّلةً لهوية ثقافية غنية صهرت كل ما مرّ بها في قالب سوري فريد. فالشعوب التي دخلت إلى سوريا – سواء كانت غازية أو فاتحة أو تاجرة أو داعية – تركت بصمتها، لكن بصبغة سورية جعلت من التراث المحلّي تراثاً عالمياً بنكهة سورية خالصة.

التراث السوري بين التأثير والتأثّر

سوريا لم تكن بمعزل عن محيطها. على العكس، فهي بلد تفاعلي، يتأثر ويؤثر. فالآثار والمعمار والفنون التي نجدها في تدمر ودمشق وعمريت والسويداء، كلّها تشهد على هذا التفاعل الحضاري:
• بعل، الإله السوري، مثّل رمزاً في الميثولوجيا السورية، لكننا نجده في الميثولوجيا اليونانية تحت اسم زيوس، بعد أن نقله قدموس إلى الإغريق. حتى شعلة الألعاب الأولمبية تعود في أصلها إلى رمزية الصاعقة التي كانت تُنسب إلى بعل.
• في الرستن، تمّ اكتشاف ناووس رخامي يحكي بأسلوب أسطوري عن آخيل وديداميا، بأسلوب يوناني – روماني، لكن بنكهة نحت تدمرية واضحة، ما يعكس التلاقح الفني والثقافي.
• المتحف الوطني في دمشق ومتحف تدمر يزخران بتماثيل تُظهر التأثر بالمدارس الرومانية من حيث الأسلوب، لكنها تحتفظ بملامح وجه وتفاصيل لباس سورية صرفة.
• في السويداء، تمثال منيرفا (ربة الحرب والسلام) يحمل كتابة يونانية، لكنّه محفور على البازلت السوري بطابع محلي يوحي بالخصوصية الفنية لمنطقة حوران وجبل العرب.
• تماثيل الفتى الإفريقي من دورا أوروبوس تظهر أيضاً هذا الانفتاح السوري، حيث تمثّلت الأعراق الأخرى كرموز فنية جمالية، لا عنصرية ولا إقصاء فيها، بل تبنٍّ فني وإنساني.

ختاماً: سوريا… مرآة العالم بروحٍ شرقية

سوريا ليست فقط مهد الحضارات، بل ملتقى روحي وثقافي لكل شعوب الأرض. فمن زارها، وجد فيها انعكاسًا من حضارته، ورأى فيها صدى لأصوات أجداده، إن كان في المعبد أو الجامع أو الكنيسة، أو في المعمار أو الفلكلور أو الحكاية الشعبية.

هي الوطن الثاني لكل زائر، والحاضنة التي جمعت الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وخلقت من هذا الخليط فسيفساء لا مثيل لها.

نناشد العالم أن يشهد لهذا البلد – ليس فقط على ما قُدِّم له من تراث، بل على ما أعطاه من تراث. نناشد كل من رأى في سوريا روحًا من حضارته، أن يدافع عنها، لتبقى المنارة المضيئة التي تضيء دروب السلام والمحبة الإنسانية في عالم أنهكته الحروب والانقسامات.

المراجع
1. د. هشام نشابة، تراث لبنان، منشورات إفريقيا–الشرق الأوسط، بيروت، 1998.
2. معرض حوار الحضارات، وزارة الثقافة بالتعاون مع اليونسكو، دمشق، 2010.
3. د. عفيف البهنسي، الشام الحضارة، وزارة الثقافة، دمشق، 1986.
4. د. بسام جاموس، لينا قطيفان، مواقع التراث العالمي في سورية، وزارة الثقافة، 2012.
5. أ. لبيب بطرس، هل كانت الرياضة الفينيقية أساس الألعاب الأولمبية؟ الجامعة الأمريكية – بيروت.
6. دليل المتحف الوطني بدمشق، الطبعة الأولى، دار الحياة، دمشق، 1969.

بقلم ورود إبراهيم.

المكتب الإعلامي
الجمعة ٢٥ تموز ٢٠٢٥م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى